قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ*وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 28-30].
إن الكفر بنعم من أكبر الظلم، فالله عز وجل هو المنعم المتفضل بجلائل النعم على خلقه، ومن حق العبيد المنَعَّمون أن يعترفوا لربهم جل وعلا بالنعم، ويشكروه عليها، ويقابلوا نعمة بالتعبد للمنعم الواحد، ولكن تجد مع ذلك الإِنعام الكبير فئة كفرت بنعم الله، فإستحقوا مقته ولعنته وعذابه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}.
يقول ابن كثير: عن عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا} قال: هم كفار أهل مكة.
وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: هو جبلة بن الأيهم، والذين إتبعوه من العرب، فلحقوا بالروم، والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل، عن ابن أبي حسين قال: قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحد يسألني عن القرآن، فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم مني به -وإن كان من وراء البحار- لأتيته؟ فقام عبد الله بن الكواء فقال: من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؟ فقال: مشركو قريش، أتتهم نعمة الله: الإيمان، فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار -تفسير ابن كثير 4/509.
وقال البغوي: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}، والإستفهام مستعمل في التشويق إلى رؤية ذلك، والرؤية: هنا بصرية متعلقها مما يرى، ولأن تعدية فعلها بـ إلى يرجح ذلك، كما في قوله {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه}، وقد نزل المخاطب منزلة من لم ير، والخطاب لمن يصح منه النظر إلى حال هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله مع وضوح حالهم.
والكفر: كفران النعمة، وهو ضد الشكر، والإشراك بالله من كفران نعمته، وفي قوله {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا}، محسن الإحتباك، وتقدير الكلام: بدلوا نعمة الله وشكرها كفرا بها ونقمة منه، كما دل عليه قوله: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الخ، واستعير التبديل لوضع الشيء في الموضع الذي يستحقه شيء آخر، لأنه يشبه تبديل الذات بالذات، والذين بدلوا هذا التبديل فريق معروفون، بقرينة قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ}، وهم الذين تلقوا الكلمة الخبيثة من الشيطان، أي: كلمة الشرك، وهم الذين إستكبروا من مشركي أهل مكة فكابروا دعوة الإسلام وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وشردوا من إستطاعوا، وتسببوا في إحلال قومهم دار البوار، فإسناد فعل أحلوا إليهم على طريقة المجاز العقلي.
ونعمة الله التي بدلوها هي نعمة أن بوأهم حرمه، وأمنهم في سفرهم وإقامتهم، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، وسلمهم مما أصاب غيرهم من الحروب والغارات والعدوان، فكفروا بمن وهبهم هذه النعم، وعبدوا الحجارة، ثم أنعم الله عليهم بأن بعث فيهم أفضل أنبيائه صلى الله عليه وسلم، وهداهم إلى الحق، وهيأ لهم أسباب السيادة والنجاة في الدنيا والآخرة، فبدلوا شكر ذلك بالكفر به، فنعمة الله الكبرى هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة إبراهيم وبنيته عليهم السلام.
وقومهم: هم الذين إتبعوهم في ملازمة الكفر حتى ماتوا كفارا، فهم أحق بأن يضافوا إليهم. والبوار: الهلاك والخسران، وداره: محله الذي وقع فيه. والإحلال بها: الإنزال فيها، والمراد بالإحلال: التسبب فيه، أي: كانوا سببا لحلول قومهم بدار البوار، وهي جهنم في الآخرة، ومواقع القتل والخزي في الدنيا مثل موقع بدر، فيجوز أن يكون {دار البوار} جهنم، وبه فسر علي وابن عباس وكثير من العلماء، ويجوز أن تكون أرض بدر، وهو رواية عن علي وعن ابن عباس.
وقوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي: جعلوا له شركاء عبدوهم معه، ودعوا الناس إلى ذلك، ثم قال تعالى مهددا لهم ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي: مهما قدرتم عليه في الدنيا فإفعلوا، فمهما يكن من شيء {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي: مرجعكم وموئلكم إليها، كما قال تعالى: {نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} [لقمان:24] وقال تعالى: {متاعٌ في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} [يونس:70] -تفسير البغوي 14/228-229.
وقال سيد قطب: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ}.. جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه، ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه!
جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل. والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله، بإتخاذ هذه الأنداد من دون الله، فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان، لا في زمن الجاهلية الأولى، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق، في أية صورة من صور الإنحراف، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم، وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله.. عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة. ومنها كان إتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى، ومنها اليوم إتخاذ شرائع من عمل البشر، تأمر بما لم يأمر الله به، وتنهى عما لم ينه عنه الله، فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله، وفي واقع الحياة!
فيا أيها الرسول {قُلْ} للقوم: {تَمَتَّعُوا}.. تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله. والعاقبة معروفة: {فإنَّ مَصِيرَكُم إلى النَّارِ} -في ظلال القرآن: تفسير سورة إبراهيم.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.